قِصة قصيرة: (نَعرِفُكِ)

مرَّ شهرانِ على تعييني وزيرة التربية والتعليم الجديدة، ويالَغرابةِ ما حدث، فقُد غُيِّرت معتقداتي جميعها عن منظومة التعليم بأكملها في أول أسبوع فقط، كانت تُراودني فكرة أنني لستُ وزيرة، بل أنا ملكة، لَكَم تمنت كل فتاة تلمس أقدامها باب أي مدرسة مركزي هذا، تبًا لِتواضعي!
اليومَ هو يوم عطلتي، أخرجُ في هذا المول التجاري متخفية بقبعة كبيرة، لو رآني أحد من حاشيتي بِها؛ سأبتسم بِخجل بالتأكيد، هذا و إن تغاضى عن التدقيق في أنني أرتدي نظارة شمسية في مكان مظلل و مكيف، ألم أقل لكُنَّ..متخفية!

أدلفُ إلى ذلك المصعد، أستندُ على جداره الرُخامي، أفكرُ في آخرِ قانونٍ أصدرته بعد أن اجتمعت مع المجلس، الاختبارات الوزارية في المواد العلمية ستكون مرفقة بِكتيِّب صغير، يحتوي على مفاتيح المفردات، والقوانين، و الصور التي تسهل على الطلاب حل الاختبار في أولِ نصف ساعة، كانت الفكرة محطَّ اعتراضٍ شديد في البداية، لكن تذكروا، إذا كنتَ تقصدُ الإرضاء؛ عليك أن تضغط على وجهة نظركَ بِتواضع، و سهولة.. فقط تضغط.

فُتح باب المصعد فجأة، ولجت فتاة في السادسة عشر من عمرها على الأكثر، كانت تتحدثُ في الهاتف و يعلوا وجهها عبوسٌ أصابني بِالمغص:
– تلك الوزيرة الجديدة القصيرة، لا تستوعب فعلتها..إنها في حقِّ الطالب المجتهد جريمة!

وزيرة جديدة قصيرة جريمة، أعجبني هذا..مهلًا من تقصد بالقصيرة؟؟

أكملت الفتاة صياحها، و رذاذها يتطاير حولها كَهالة شعثاء:
– أجل..إنها تساوي الطالب الكسول بالطالب العجول، تساوي المكافح بالمُبارح، ألا تملكُ ضميرًا؟، أجتهد طوال السنة؛ لأدخل إلى اختباراتٍ أتساوى بِها مع من حضرت أسبوعًا واحدًا فقط!

ألصقت ظهري بِالجدار أكثر، إنها حقًا غاضبة، بدأ تطبيق المثل المصري الشهير” سأمثلُ أنني من بنها “، و..توَقَّفَ المصعد فجأة.

– حسنًا أغلقي الآن يا جمانة.

اقتربَت من باب المصعد و هي تسألني:
– هل تعطل المصد للتو؟

= I don’t speak Arabic

– آه عفو…مهلًا..هذه الشامة، هاذان الحاجبان الكثيفان..أنا أعرفُ حضرتكِ جيدًا..

أوه لا!.. لقد وقعتُ في يدِ طالبة شاعرة غاضبة مُنتقمة، تصببتُ عرقًا، ما بالي أشعرُ بالارتباك؟، لا يشعرُ بالارتباك إلا من ارتكب شيئًا يعرفُ في صميمه أنه خطأ..

= أيُّ شامة؟، إنه حبُّ الشباب؟

– شباب ها؟؟ الشباب الذين ستفسدهم أفكار حضرتكِ!

أحسستُ بالإهانة من جرأتها، أبعدتُ عيوني عنها بِلا مبالاة أجدتُ اصطناعها.

ضغطت الفتاة زرَّ جرس النجدة، ثم جلست على الأرض بِهدوء، أسندت رأسها إلى الجدار، و قالت بأكثر نبرة مقنعة سمعتها يومًا:
– لن أتحدث مع الوزيرة العظيمة صاحبة السلطة و القرار، سأتحدث مع تلك الفتاة التي كانت من سني في يوم من الأيام، تذكرين عندما كنتِ طالبة، كيف تمنيتِ لو يقومون بإلغاء جميع الاختبارات، كم فكرتِ في جملة (لماذا يمتحنوننا؟، أين الثقة بين الطالب و المعلم؟؟)، لا أتصنع المثالية، و لكنني كَطالبة مجتهدة تحب نهلَ خيرات العلم، أشعرُ في بعض الأحيان بِالتكاسل، بالتواكل، أتواكلُ على عقلي، أقول لِمَ أدرس وأنا أستطيع فهم السؤال وحله بِدون حفظ خطوات أو النظر في المنهاج حتى!؛ و هذا يجعلني أوقن تمامًا أن الاختبارات مهمة، حتى وإن كانت تمثل تهديدًا، خوفًا، سهرًا، بكاءً؛ فَهي تحافظ على مستواي، بالنظر إلى نظام حضرتك الجديد، أنتِ تحققين ما تمنيتِ أنت حدوثه في يوم من الأيام، أرضيتِ من يعشقون اللهو، ساويتِ بينهم وبين من تعطي الكتاب من ضي عينيها، من تسهر وتبكي عندما تنقص درجتين فقط في مادة ما، شتان بين من تريدُ الوصول بِجهدها وعملها وعقلها، وبين من تريد أن تأتيها المكانة على طبقٍ من ذهب، حضرتكِ لا تساعدين..بل تظلمين.

هل تعرفون أن الإقناع لا يأتي بالقسوة، بل بالاستمرارية؟؛ فَقطراتُ الماء تظلُّ تقطر فوق الصخر شهرًا حتى تحدثَ فيه ثقبًا، كذلك كلمات تلك الفتاة التي أغمضت عينيها فورَ انتهائها من حديثها، زَعزَعَت ثوابتي، أيقظتني من حلمٍ تلهفت فيه فقط لإرضاء روحي الطفولية، كان قراري مبتعدًا عن النضج، متهورٌ و ظالمٌ فعلًا.

انحنيتُ أجلس بِجانبها، وابتسمتُ بخجلٍ ليس مِن قُبعتي، بَل من فِعلتي، همستُ:
= آسفة!

فتَحَت عيونها، و نظرت إليَّ بابتسامة مُسالمة:
– لا بأس..جميعنا نخطئ..وبِالمناسبة..أحببتُ قبعتكِ.

ضحكتُ بتعجبٍ منها، و فُتح باب المصعد مرة واحدة، نظرَ لنا الناس في الخارج، سمعتُ هتافًا غاضبًا قادمًا من الجميع:
– مهلًا!..أنا أعرفكِ!
تمَّت

ك/ وَطَن